الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

القول الفصل في حكم مصافحة المرأة الأجنبية

السؤال

ما حكم مصافحة المرأة الأجنبية؟ بالنسبة لحديث: لأن يُطعن أحدكم في رأسه بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له ـ يحرم مصافحة النساء الأجنبيات مطلقا مع العلم أنني قرأت موضوعا على النت ذُكر فيه أن هناك خلاف على تحديد مفهوم المس وأن حديث: إني لا أصافح النساء ـ ليس دليلا على المنع، بل ربما يكون دليلا على الجواز، لأنه قد يكون حكما خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم كحكم أكل البصل مثلا وإلا لقال لا تصافحوا النساء، وهذا كما ذًُكر في الموضوع، فإذا كانت هناك حُرمة، فهل هي مطلقة حتى لو كانت التي أصافحها من النساء الكبار جدا اللاتي لا يرجون نكاحا؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد سبق لنا بيان حرمة مصافحة الأجنبية، وأن ذلك ليس من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، فراجع الفتوى رقم: 55256.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين عما أورده بعض الكتاب المعاصرين حول مصافحة المرأة الأجنبية وقوله: لا بأس بالمصافحة العفوية، والخلوة البريئة بالأجنبية مع سلامة القلب، وأن قوله عليه الصلاة والسلام: إني لا أصافح النساء ـ خاص به عليه الصلاة والسلام؟ فكان مما أجاب به ـ رحمه الله: أما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم تمس يده يد امرأة، فليس هذا خاصاً به، بل هو عليه الصلاة والسلام يجوز له من الخلوة بالنساء ما لا يجوز لغيره، لأنه أبعد الناس عن الريبة، فهذه الشبهة ليست شبهة في الواقع إلا على من كان في قلبه مرض، فإن المتنبي يقول:

ومن يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماء الزلالا. اهـ.

والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم برغم ما يجوز له من الخلوة والنظر مما يحرم على غيره من أفراد أمته، إلا إنه في مسألة المصافحة امتنع وصرح بقوله: إني لا أصافح النساء ـ فغيره أولى بالامتناع عن ذلك، لمكان الريبة والفتنة في حقه، ويتأكد هذا المعنى بعد مراعاة وجود المقتضي للمصافحة في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إتمام البيعة، فإن النساء لما أردن مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم قلن له: هلم نبايعك يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي لامرأة واحدة ـ رواه مالك وأحمد والنسائي.

قال الحافظ العراقي في طرح التثريب: فيه أنه عليه الصلاة والسلام لم تمس يده قط يد امرأة غير زوجاته وما ملكت يمينه، لا في مبايعة ولا في غيرها، وإذا لم يفعل هو ذلك مع عصمته وانتفاء الريبة في حقه، فغيره أولى بذلك، والظاهر أنه كان يمتنع من ذلك لتحريمه عليه، فإنه لم يعد جوازه من خصائصه. اهـ.

وقال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان: كونه صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء وقت البيعة دليل واضح على أن الرجل لا يصافح المرأة، ولا يمس شيء من بدنه شيئا من بدنها، لأن أخف أنواع اللمس المصافحة، فإذا امتنع منها صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها وهو وقت المبايعة، دل ذلك على أنها لا تجوز، وليس لأحد مخالفته صلى الله عليه وسلم، لأنه هو المشرع لأمته بأقواله وأفعاله وتقريره. اهـ.

وقال الشيخ محمد الحامد في كتابه حكم مصافحة المرأة: دلالة الحديث على تحريمها دلالة أوّليّة، إذ قد امتنع عنها صلى الله عليه وسلم حال المبايعة، مع أنّ الأصل فيها أن تكون معاقدة بالأيدي ومصافحة بها، فلَأَنْ تكون ممنوعةً في غير هذا الموطن أوْلى وأجْدر، والأحاديث التي رويناها في تحريم المسّ تُصحِّح الفهم وتورثة السلامة، وتنأى بالمرء عن هذا المنزلق الخطِر فإن المرأة مشتهاة خِلْقة، واللّمْس مثيرُ شهوة الوِقاع، وهي أعصى الشهوات للدين والعقل، فكل سبب يدعو إليها في غير حلّ ممنوع في الإسلام ومحظور، إذ الوسائل لها أحكام المقاصد. اهـ.

وأما الخلاف في تحديد مفهوم المس المذكور في الحديث الوارد في صدر السؤال، وأنه يمكن حمله على الكناية عن الجماع أو مقدماته، كقوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ـ فهذا جوابه من وجوه:
ـ الأول: أن المس باليد قد جاء في منعه والتحذير منه ما هو صريح، بل وتسميته زنا، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: كل ابن آدم أصاب من الزنا لا محالة، فالعين زناها النظر، واليد زناها اللمس، والنفس تهوى وتحدث ويصدق ذلك ويكذبه الفرج. رواه أحمد والبخاري ومسلم.
ـ الثاني: أن من أهل العلم من صرح بحمل الحديث على مجرد المس باليد، ولكن لم نجد من أهل العلم الماضين من فسره بالكناية عن الجماع أو مقدماته، قال المناوي في التيسير: إذا كَانَ هَذَا فِي مُجَرّد الْمس، فَمَا بالك بِمَا فَوْقه من نَحْو قبْلَة ومباشرة. اهـ.
ـ الثالث: أن بقية نصوص السنة توضح المعنى المراد، بل وتعينه، ومن ذلك حديث أميمة بنت رقيقة المذكور في السؤال نفسه.
ـ الرابع: أن القاعدة حمل اللفظ على حقيقته، ولا يصار إلى مجازه إلا بقرينة، والمس يطلق حقيقة على اللمس باليد، قال الدكتور عبد الناصر بن خضر ميلاد في كتابه المصارحة في أحكام المصافحة: دفع هذا: بأن كلمة: المس ـ تُطلق حقيقة على مجرّد لمس البشرة للبشرة، وتُطلق مجازاً على الجماع أو ما دونه، ومعلوم أنّ اللفظ إذا أُطلِق وجَب حمْلُه على حقيقته، ولا ينتقل إلى المجاز إلا إذا تعذّر الحملُ على الحقيقة، أو وُجدت القرينة الصّارفة له من الحقيقة إلى المجاز، وحمْل اللّفظ على حقيقته هنا غير متعذِّر، وما المانع من شمول اللفظ هنا لمعنيَيْه الحقيقي والمجازي؟ فقصْره على المعنى المجازي فقط فيه تحكّم. اهـ.
ـ الخامس: أن هذا التأويل يفتح الباب أمام كل أحد لادعاء عدم وجود دليل على تحريم مس المرأة الأجنبية سواء في يدها أو غيرها من مواضع بدنها كوجهها، طالما أن ذلك ليس على سبيل التشهي!! وهذا حاصل بالفعل في بعض الأعراف فيحصل التقبيل على سبيل التحية!! وقد أشار إلى ذلك الإمام الشنقيطي في معرض تقرير عدم جواز مس الرجل المرأة الأجنبية فقال: الأمر الثالث: أن ذلك ذريعة إلى التلذذ بالأجنبية، لقلة تقوى الله في هذا الزمان وضياع الأمانة، وعدم التورع عن الريبة، وقد أخبرنا مرارا أن بعض الأزواج من العوام، يقبل أخت امرأته بوضع الفم على الفم ويسمون ذلك التقبيل الحرام بالإجماع: سلاما، فيقولون: سلم عليها، يعنون: قبلها، فالحق الذي لا شك فيه التباعد عن جميع الفتن والريب وأسبابها، ومن أكبرها لمس الرجل شيئا من بدن الأجنبية، والذريعة إلى الحرام يجب سدها. اهـ.

وأما بالنسبة للعجوز التي لا تشتهي ولا تشتهى، ففي جواز مصافحتها خلاف بين أهل العلم، ما دامت الشهوة مأمونة من الطرفين، وقد نص المالكية على تحريم مصافحتها أخذا بعموم الأدلة المثبتة للتحريم، وكذلك الشافعية لم يفرقوا بينها وبين الشابة، وراجع في تفصيل ذلك الفتويين رقم: 1025، ورقم: 59396.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني