الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

القول على الله بلا علم من كبائر الذنوب

السؤال

الإعراض عن العاصي ومفارقته حال اقترافه للمعصية واجب أياً كانت صغيرةً أو كبيرة، هذا الأصل العام, لكن هنالك حالات مخصوصة بسبب الحرج والمشقة، مثال ذلك معاشرة من له حق واجب في الصلة والعشرة بالمعروف مثل الزوجة الكتابية والوالدين المشركين، فإن الذي يعاشرهم سيجد صعوبة ومشقة لو فارقهم في حال وقوعهم في أي منكر فلذلك الذي أراه أنه تجب مفارقتهم حال وقوعهم في المعاصي الكبيرة والمكفرة والصغائر المتعدية وما سواه فلا ـ والله أعلم ـ وذلك لأن عدم الجلوس في مجلس فيه معصية لا أعلم له دليلاُ صريحاً وقوله تعالى: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم ...الآية، وقوله: وإذا رأيت الذين يخوضون ...الآية ـ وقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها خمرـ لا يدل على مفارقة المنكر أياً كان، فهناك من المنكرات ما هو من الصغائر ويعسر التحرز منها، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، وإلحاق مجالس الغيبة وغيرها بالآيات السالفة الذكر لا أعلم وجه الاستدلال فيه، فإن كان قياس موافقة مساو أو أولى، فمن الظلم إلحاق شهود مجالس الكفر بآيات الله والاستهزاء بها أو الجلوس على مائدة يدار عليها خمر بشهود مجلس الغيبة ولو كان هذا الإلحاق في التأثيم فقط دون مرتبته، ولأن هذه المسألة ليست من النوازل فإعراض الشارع عن النص على تحريمها قد يكون لعدم إحراج المسلمين، أو لما يترتب على ذلك من قطيعة وعدم القدرة على صلة الأرحام بضوابط أشبه ما تكون بتعجيزية، ويغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها وما كان ربك نسياً، قد يقول قائل إن الله تعالى قال في وصف المؤمنين: والذين هم عن اللغو معرضون الآية ـ لا تدل على الإعراض مطلقاً من جميع الذنوب، إنما المراد الإعراض عن الشرك وقيل الإعراض عن مقابلة الكفار والمشركين بالسب والشتم، وعلى كل حال الآية قد تكون خرجت مخرج الغالب ـ والله أعلم ـ هل مذهبي صحيح؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فما زعمت أنه مذهب لك وتسأل عن صحته هو من السقوط والتهافت بحيث لا يحتاج إلى أن يجاب عنه، وحسبه أنه مذهب لك أنت لم يسبقك إليه أحد من علماء الأمة عبر القرون المتطاولة، فيا لله العجب، هل خفيت هذه الأدلة والبراهين التي تستدل بها وتستروح إليها على جميع أهل العلم حتى هداك الله إليها فاستنبطتها بثاقب فكرك، إننا نذكرك بالله تعالى ونعيذك به سبحانه أن تجترئ على القول في دينه بغير علم، فإن هذا من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ {الأعراف:33}.

واعرف قدر نفسك فلا تتجاسر على الاستنباط دون أن تكمل لك آلته، واقتد بالأسلاف، ولا تقولن بقول إلا أن يكون لك فيه إمام، وظاهر لنا من كلامك أنك تنتسب إلى طلب العلم، ولكن ما تزال بينك وبين الرسوخ فيه مفاوز، فأشغل نفسك بالتعلم مقبلا على شأنك متواضعا في نفسك دائبا في القراءة والتحصيل والمطالعة جاثيا بين أيدي العلماء مستفيدا منهم، ريثما يكون لك في هذا الشأن باع، وقد بنيت ما سميته مذهبك وحاصله أن حضور مجالس الغيبة مع الإنكار بالقلب لا حرج فيه على مقدمات فاسدة فمنها عدك الغيبة من الصغائر وهذا خلاف التحقيق، قال الناظم:

وقد قيل صغرى غيبة ونميمة وكلتاهما كبرى على نص أحمد.

ثم زعمك أنه لا يجب مجانبة مرتكب الصغائر حال ارتكابها، وهل الصغائر إلا من المنكرات؟ وقد ذم الله بني إسرائيل بأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، قال صلى الله عليه وسلم: إن أول ما دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعيسى بن مريم ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ.{ المائدة78: 81}

وهل مجالسة من يرتكب المنكر مع القدرة على مفارقته مع عدم الإنكار عليه إلا إقرار على المنكر؟ ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية الاتفاق على هذا كما سيمر بك كلامه، وهؤلاء الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ تركوا مجالسة من يفعل الحرام أيا ما كان، بل تركوا مجالسة من يفعل المكروه لشدة ورعهم، قال البخاري: باب هل يرجع إذا رأى منكرا في الدعوة، وَرَأَى أَبُو مَسْعُودٍ صُورَةً فِي البَيْتِ فَرَجَعَ وَدَعَا ابْنُ عُمَرَ أَبَا أَيُّوبَ، فَرَأَى فِي البَيْتِ سِتْرًا عَلَى الجِدَارِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: غَلَبَنَا عَلَيْهِ النِّسَاءُ، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهِ فَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى عَلَيْكَ، وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا، فَرَجَعَ. انتهى.

قال الحافظ: قال ابن بَطَّالٍ فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ فِي الدَّعْوَةِ يَكُونُ فِيهَا مُنْكَرٌ مِمَّا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِظْهَارِ الرِّضَا بِهَا وَنَقَلَ مَذَاهِبَ الْقُدَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَحَاصِلُهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ مُحَرَّمٌ وَقَدَرَ عَلَى إِزَالَتِهِ فَأَزَالَهُ فَلَا بَأْسَ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيَرْجِعْ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ فَلَا يَخْفَى الْوَرَعُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَقع فِي قصَّة ابن عُمَرَ مِنِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي دُخُولِ الْبَيْتِ الَّذِي سُتِرَتْ جُدُرَهُ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا قعد الَّذين قعدوا وَلَا فعله بن عُمَرَ فَيُحْمَلُ فِعْلُ أَبِي أَيُّوبَ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو أَيُّوبَ كَانَ يَرَى التَّحْرِيمَ وَالَّذِينَ لَمْ يُنْكِرُوا كَانُوا يَرَوْنَ الْإِبَاحَةَ. انتهى.

وقال الغزالي: فكل من شاهد منكرا ولم ينكره فهو شريك فيه، فالمستمع شريك المغتاب، ويجري هذا في جميع المعاصي في مجالسة من يلبس الديباج ويتختم بذهب ويجلس على حرير وجلوس في دار أو حمام على حيطانها صور أو فيها أواني من ذهب أو فضة وجلوس بمسجد يسيء الصلاة فيه فلا يتمون الركوع والسجود، أو بمجلس وعظ يجري به ذكر بدعة ومجلس مناظرة أو مجادلة يجري فيه الإيذاء والفحش. انتهى.

فالواجب إذا هو النهي عن المنكر سواء كان من كبار الذنوب أو صغارها، فإن عجز المسلم عن النهي لم يجز له مجالسة من يرتكب المنكر حال ارتكابه له، فإن اضطر لذلك أو دعته إليه حاجة فهنا يسعه أن ينكر بقلبه وليس عليه إثم، قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله: فالرجل لو يسمع الكفر والكذب والغيبة والغناء والشبابة من غير قصد منه، بل كان مجتازا بطريق فسمع ذلك لم يأثم بذلك باتفاق المسلمين، ولو جلس واستمع إلى ذلك ولم ينكره لا بقلبه ولا بلسانه ولا يده كان آثما باتفاق المسلمين، كما قال تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون، وقال تعالى: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ـ فجعل القاعد المستمع من غير إنكار بمنزلة الفاعل، ولهذا يقال: المستمع شريك المغتاب، وفي الأثر: من شهد المعصية وكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهدها، فإذا شهدها لحاجة أو لإكراه أنكرها بقلبه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. انتهى.

وهذا الذي قرره العلماء واتفق عليه المسلمون ليس فيه بحمد الله تشديد ولا تعجيز لما مر بك من أنه مع الحاجة يرخص له في الجلوس بقدرها مع الحرص على الإنكار بقلبه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني