الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل الأعمال الصالحة تكفر الكبائر والصغائر

السؤال

جزاكم الله خيرا على هذا الموقع الرائع وجعله في ميزان حسناتكم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ـ رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم، فهل الذي يحافظ على الصلوات الخمس في المسجد ويلقى الله على ذلك الحال يكون له عهد عند الله أن يدخله الجنة ـ أي يكفر عنه كل سيئاته الكبيرة والصغيرة إلا الدين كالشهيد ـ ويدخله الجنة من غير عذاب ولا حساب؟ وهل تفسير الآية: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ـ أنهم يدخلونها أيضا من غير عذاب ولا حساب؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ {النساء:48، 116}.

والأعمال الصالحة، من صلاة وزكاة وصيام وحج وغيرها، سبب لنيل مغفرة الذنوب مما دون الشرك، والحديث الذي ذكرته صحيح، رواه مالك في الموطأ، ومن طريقه أبو داود والنسائي، عن عبادة بن الصامت، ورواه ابن ماجه عنه، ومثلَه عن أبي قتادة، كلُّهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ليس على ظاهره من أن كل من لقي الله عز وجل ولم يأتِ إلا بالصلوات الخمس، فإنه يدخل الجنة وإن ترك الفرائض وأتى الفواحش والكبائر، بل الأمر على خلاف ذلك، كما روى مسلم في صحيحه من طريق أبي هريرة: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّراتُ ما بينَهن إذا اجتنب الكبائر.

فلو كانت الصلوات الخمس بذاتها مكفرةً لما بينها من الكبائر، لما كان لاشتراط اجتناب الكبائر معنى، ولا لذكر الجمعة ورمضان، وليس معنى الحديث أن من حافظ على الجمعة فلا يحاسب على ترك غيرها من الصلوات، بالإجماع، قال ابن رجب في فتح الباري: لكنْ الجمهور القائلون بأن الكبائر لا يكفرها مجرد الصلاة بدون توبة يقولون: هذا العموم خُص منه الكبائر بما خرّجه مسلم. اهـ.

ومثله ما رواه النسائي وأحمد وغيرهما من حديث أبي أيوب الأنصاري مرفوعاً: من جاء يعبد الله، ولا يشرك به شيئاً ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويجتنب الكبائر، كان له الجنة.

فصرح بضرورة اجتناب الكبائر مع الصلاة والزكاة، قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرح مسلم: وقد يقال: إذا كفّر الوضوء فماذا تكفّر الصلاة؟ وإذا كفرت الصلاة، فماذا تكفر الجمعات ورمضان؟ وكذلك صوم يوم عرفة كفارة سنتين، ويوم عاشوراء كفارة سنة، وإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ـ قال: والجواب: ما أجابه العلماء أن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات ورفعت به درجات، وإن صادفت كبيرة، أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر، والله أعلم. اهـ.

وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: ولو كانت الكبائر تقع مكفَّرة بالوضوء والصلاة، وأداء بقية أركان الإسلام، لم يحتج إلى التوبة، وهذا باطل بالإجماع ـ قال: وأيضاً فلو كفرت الكبائر بفعل الفرائض، لم يبق لأحد ذنب يدخل به النار إذا أتى بالفرائض، وهذا يشبه قول المرجئة وهو باطل ـ قال: هذا ما ذكره ابن عبد البر في كتابه التمهيد وحكى إجماع المسلمين على ذلك، واستدل عليه بأحاديث: منها قوله صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ـ وهو مخرج في الصحيحين، من حديث أبي هريرة، وهذا يدل على أن الكبائر لا تكفرها هذه الفرائض. اهـ.

والحديث الذي سألتَ عنه شبيه بما جاء في الصحيحين: أن رجلاً جاء يسأل عن الإسلام، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وصوم رمضان، والزكاة، فأدبر الرجل، وهو يقول: والله، لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق. وقد جاء في رواية للبخاري: دخل الجنة إن صدق.

قال ابن بطال في شرح البخاري: فرض الحج لم يأت في هذا الحديث من طريق صحيح، ولا يجوز أن يسقط فرض الحج عمن استطاع إليه سبيلاً، كما لا يجوز أن تسقط عنه فرائض النهي كلها، وهي غير مذكورة فى هذا الحديث، ولا يجوز ترك اتباع النبى صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في سنته، لقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا { الحشر: 7} قال: فبان بهذا أن قوله: تمت، أفلح إن صدق ـ ليس على العموم، قال: وفيه تأويل آخر: يحتمل أن يكون قوله: تمت والله لا أزيد على هذا ولا أنقص ـ على معنى التأكيد في المحافظة على الوفاء بالفرائض المذكورة، من غير نقصان شيءٍ من حدودها... ويكون الكلام إخبارًا عن صدق الطاعة وصحيح الائتمار، ومن كان في المحافظة على ما أُمِرَ به بهذه المنزلة، فإنه متى ورد عليه أمرٌ لله تعالى أو لرسوله فإنه يبادر إليه، ولا يتوقف عنه، فرضًا كان أو سُنَّةً ـ إلى أن قال: وبهذا التأويل تتفق معانى الآثار والكتاب، ولا يتضاد شيء من ذلك. اهـ.

وهذا موافق لقول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ {العنكبوت:45}.

فإن من أقام الصلاة وأتم أركانها وخشوعها، نهته عن المعاصي والمنكرات، وحثته على أداء الواجبات والمستحبات، كما روى الطبري عن ابن عباس في قوله: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ـ قال: فمن لم تأمرْه صلاته بالمعروف وتنهَهُ عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً.

وقيل لعبد الله بن مسعود: إن فلاناً يطيل الصلاة؟ قال: إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها.

وقال أبو العالية في قوله: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ـ إن الصلاة فيها ثلاث خصال، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر الله، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر القرآن يأمره وينهاه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 6 / 217: وإذا كان الله إنما يتقبل ممن يعمل العمل على الوجه المأمور به، ففي السنن عن عمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن العبد لينصرف عن صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها إلا ربعها، حتى قال: إلا عشرها ـ وقال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها. اهـ.

ثم قال 6 / 218: فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل من الأعمال، وأكثر الناس يقصرون في الحسنات، حتى في نفس صلاتهم فالسعيد منهم من يكتب له نصفها، وهم يفعلون السيئات كثيراً، فلهذا يُكفَّر بما يُقبَل من الصلوات الخمس شيء، وبما يقبل من الجمعة شيء، وبما يقبل من صيام رمضان شيء آخر، وكذلك سائر الأعمال، وليس كل حسنة تمحو كل سيئة، بل المحو يكون للصغائر تارة، ويكون للكبائر تارة، باعتبار الموازنة. اهـ.

وقال في 5ـ/ 198: والحسنات المقبولة تكفر السيئات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ـ ولو كفر الجميع بالخمس لم يحتج إلى الجمعة، لكن التكفير بالحسنات المقبولة، وغالب الناس لا يكتب له من الصلاة إلا بعضها، فيكفّر ذلك بقدْره والباقي يحتاج إلى تكفير .... ولهذا جاء من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من أعماله الصلاة، فإن أكملت وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع؟ فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة، ثم يصنع في سائر الأعمال كذلك ـ انتهى

فمن صلى الصلاة على غير تمامها لم يحصل له المرجو من أجرها، واحتاج إلى غيرها من الأعمال، ومن ترك المأمور وارتكب المحظور دلّ فعله على أن صلاته لم تكن تامةً بالخشوع والخشية والرغبة والرهبة، فلم تأمره بالمعروف وتنهَه عن المنكر، ففي كلا الحالين لا تنفعه صلاته، فالمفلحُ من أدى صلاته على تمامها، تمامها من حيث أركانُها وسننها وخشوعها وتمامها من حيث ثمرتُها من فعل الطاعات وتركِ المنكرات، ولا ينالها إلا القليل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل: أفلح إن صدق ـ أو: دخل الجنة إن صدق ـ فهذا هو الذي ينال عهد الله المذكور في حديث مالك، ويؤيد ذلك مجيء الحديث من طريق آخر، كما عند أحمد وأبي داود وغيرهما عن عبادة بن الصامت: خمس صلوات افترضهن الله تعالى من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له... الحديث، وروى أبو داود عن أبي الدرداء مرفوعا: خمس من جاء بهن مع إيمانٍ دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً، وأعطى الزكاة طيِّبةً بها نفْسُه، وأدى الأمانة.

ولهذا قال الزرقاني في شرح الموطأ في قوله في الحديث المذكور: وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ ـ قال: على الوجه المطلوب شرعاً.

ولا يعني هذا أن من حافظ على الصلاة مع تقصيره فيها، أو في غيرها لا بد من عقابه في الآخرة، بل قد يغفر الله له بصلاته أو غيرها من الأسباب والأعمال الصالحة، وإن كان ذلك غير لازم لكل من كانت هذه صفته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 6ـ 218: والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمُل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله له به كبائر. اهـ.

واستدل بحديث صاحب البطاقة وغيره كالبغي التي سقت الكلب، ثم قال: وإلا فليس كل بغي سقت كلباً يُغفر لها... فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض ـ ثم قال: إذا عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها ويصغر قدرها بما في القلوب، وما في القلوب يتفاضل، لا يَعرف مقادير ما في القلوب من الإيمان إلا الله، عرف الإنسان أن ما قاله الرسول كله حق، ولم يضرب بعضه ببعض. اهـ.

ولا يعني أيضاً أن من لم يصلّ لن يدخل الجنة ولن يغفر له، بل قد يرحمه الله تعالى، كما قال تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ {النساء:48}.

وكما في الحديث الذي ذكرته: إن شاء عذبه، وإن شاء أدخل الجنة ـ وهذا على قول الجمهور الذين لا يجعلون تارك الصلاة عمداً كافراً خارجاً من الملة، ويستدلون بهذا الحديث وغيره، وفيه رد على الخوارج والمعتزلة القائلين بأن مرتكب الكبيرة لا يدخل الجنة أبداً.

وأما تفسير قوله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر:10}.

فقد قال فيه الطبري: إنما يعطي الله أهل الصبر على ما لقوا فيه في الدنيا أجرهم في الآخرة بغير حساب... عن قتادة: بغير مكيال ولا ميزان.

وقال ابن جزي في الآية: هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: أن الصابر يوفى أجره ولا يحاسب على أعماله، فهو من الذين يدخلون الجنة بغير حساب.

الثاني: أن أجر الصابرين بغير حصر، بل أكثر من أن يُحصر بعدد، أو وزن، وهذا قول الجمهور. اهـ.

وانظر الفتوى رقم: 41428.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني