الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم حسن الظن بالله مع الشعور بالتقصير في حقوقه

السؤال

يخالجني دائما شعور بأن الله سيدخلني الجنة، والله يعلم أن هذا الشعور ليس من باب أن عملي كامل، فأنا مقصرة مهما فعلت، ولكنه من باب حسن الظن بالله وبرحمته، فهل هذا الشعور خاطئ؟.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالذي ينبغي للمسلم هو أن يكون خائفا راجيا، فيسيء الظن بنفسه، ويخشى أن يؤتى من قبلها؛ ليحمله ذلك على تحسين العمل وعدم الأمن من مكر الله تعالى، ويحسن الظن بربه ويرجو رحمته، ليحمله ذلك على عدم القنوط من رحمته سبحانه، ثم إن المقصر لا ينبغي أن يغتر بحسن الظن بالله تعالى، بل عليه أن يحسن العمل، وأن يعلم أن تقصيره وتفريطه ثم ظنه حصول الخير ليس من حسن الظن المحمود، فإن حسن الظن بالله يقتضي تحسين العمل، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وَكَاتِّكَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاكِيًا عَنْ رَبِّهِ: أَنَا عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ ـ يَعْنِي مَا كَانَ فِي ظَنِّهِ، فَإِنِّي فَاعِلُهُ بِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْإِحْسَانِ، فَإِنَّ الْمُحْسِنَ حَسَنُ الظَّنِّ بِرَبِّهِ أَنْ يُجَازِيَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ وَلَا يُخْلِفَ وَعْدَهُ، وَيَقْبَلَ تَوْبَتَهُ، وَأَمَّا الْمُسِيءُ الْمُصِرُّ عَلَى الْكَبَائِرِ وَالظُّلْمِ وَالْمُخَالَفَاتِ، فَإِنَّ وَحْشَةَ الْمَعَاصِي وَالظُّلْمِ وَالْحَرَامِ تَمْنَعُهُ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِرَبِّهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الشَّاهِدِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ الْخَارِجَ عَنْ طَاعَةِ سَيِّدِهِ لَا يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِ، وَلَا يُجَامِعُ وَحْشَةَ الْإِسَاءَةِ إِحْسَانُ الظَّنِّ أَبَدًا، فَإِنَّ الْمُسِيءَ مُسْتَوْحِشٌ بِقَدْرِ إِسَاءَتِهِ، وَأَحْسَنُ النَّاسِ ظَنًّا بِرَبِّهِ أَطْوَعُهُمْ لَهُ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأَحْسَنَ الْعَمَلَ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ أَسَاءَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأَسَاءَ الْعَمَلَ ـ وَكَيْفَ يَكُونُ مُحْسِنُ الظَّنِّ بِرَبِّهِ مَنْ هُوَ شَارِدٌ عَنْهُ، حَالٌّ مُرْتَحِلٌ فِي مَسَاخِطِهِ وَمَا يُغْضِبُهُ. انتهى.

فهذا الشعور ليس في محله، وإنما الصواب أن يكون حسن الظن بالله مقارنا لحسن العمل، وأما مع التقصير والتفريط فيخشى العبد على نفسه سوء مغبة فعله، واختلف السالكون في أي الأمرين أولى أن يغلب على العبد، فقيل ينبغي أن يتعادل خوفه ورجاؤه، وقيل بل ينبغي أن يغلب الخوف في حال الصحة، وأما في حال المرض وقرب الموت فينبغي أن يغلب الرجاء، واختار شيخ الإسلام أنه ينبغي تعادلهما، قال في الفروع: وَفِي النَّصِيحَةِ: يَغْلِبُ الْخَوْفُ لِحَمْلِهِ عَلَى الْعَمَلِ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ وَغَيْرُهُ، وَنَصُّهُ: يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ رَجَاؤُهُ وَخَوْفُهُ وَاحِدًا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَيُّهُمَا غَلَبَ صَاحِبَهُ هَلَكَ، قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ، وَلِهَذَا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الْخَوْفِ أَوْقَعَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ، إمَّا فِي نَفْسِهِ، وَإِمَّا فِي أُمُورِ النَّاسِ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالَ الرَّجَاءِ بِلَا خَوْفٍ أَوْقَعَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْأَمْنِ لِمَكْرِ اللَّهِ، إمَّا فِي نَفْسِهِ وَإِمَّا فِي أُمُورِ النَّاسِ، وَالرَّجَاءُ بِحَسَبِ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ يَجِبُ تَرْجِيحُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي خَيْرًا ـ وَأَمَّا الْخَوْفُ فَيَكُونُ بِالنَّظَرِ إلَى تَفْرِيطِ الْعَبْدِ وَتَعَدِّيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَدْلٌ لَا يَأْخُذُ إلَّا بِالذَّنْبِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يُغَلِّبُ الشَّابُّ الرَّجَاءَ، وَالشَّيْخُ الْخَوْفَ. انتهى.

وقال ابن القيم رحمه الله: الْقَلْبُ فِي سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِرِ، فَالْمَحَبَّةُ رَأْسُهُ، وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ جَنَاحَاهُ، فَمَتَى سَلِمَ الرَّأْسُ وَالْجَنَاحَانِ فَالطَّائِرُ جَيِّدُ الطَّيَرَانِ، وَمَتَى قُطِعَ الرَّأْسُ مَاتَ الطَّائِرُ، وَمَتَى فُقِدَ الْجَنَاحَانِ فَهُوَ عُرْضَةٌ لِكُلِّ صَائِدٍ وَكَاسِرٍ، وَلَكِنَّ السَّلَفَ اسْتَحَبُّوا أَنْ يَقْوَى فِي الصِّحَّةِ جَنَاحُ الْخَوْفِ عَلَى جَنَاحِ الرَّجَاءِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا يَقْوَى جَنَاحُ الرَّجَاءِ عَلَى جَنَاحِ الْخَوْفِ، هَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِ، قَالَ: يَنْبَغِي لِلْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْخَوْفَ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ فَسَدَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ: اعْتِدَالُ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَغَلَبَةُ الْحُبِّ، فَالْمَحَبَّةُ هِيَ الْمَرْكَبُ، وَالرَّجَاءُ حَادٍ، وَالْخَوْفُ سَائِقٌ، وَاللَّهُ الْمُوَصِّلُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. انتهى.

وبه تعلمين أن الأولى لك إما أن تغلبي جانب الخوف وإما أن يعتدلا، فلا يغلب أحدهما الآخر، وأما تغليب الرجاء: فقد يحمل على القعود عن بعض الطاعات وترك كثير من العبادات.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني